قِطارٌ كهربائيٌّ يسير مع اتّجاه الرّيح، فأين يكون اتّجاه دُخانه؟
تلك أُحجية أستاذ الفيزياء بمدرستي التي أرهقني التّفكير بها آنذاك، حتّى حينئذٍ ظننتهُ -للحظة- عبقريّاً كآينشتاين بعض الشيء!
هل كان الحقُّ عليه إذ جعلني أفكّر كثيراً؟ أم كانت سَذاجَتي -التي تَقْبَعُ خلف تفحُّص ما وراءَ الأمور- تَحْتِم عليّ أنْ أتمعّن بها كثيراً؟ أم هل كان والدي هو السّبب؛ لمّا نمّاني بمدارسَ لا يعي أستاذُها بأنّ طلّابه سيكبرون.. وسيعلمون ما سيعلمون؟!
تضحّي بعمرك.. لتُنشئ مجتمعاً يرتقي بأهله ووطنه ويصيّرهما لما هو أجمل، نقضي من أعمارنا سنواتٍ ونحن نعجنُ التّاريخَ والحسابَ وعلومَ الفيزياءِ ونطهوها على نارٍ كان زيتُها ماءً! ولو أنّا استفدنا.. لانعَكَس ذلك جليّاً على مجتمعاتنا، لكن بدا واضحاً بأنّنا كنّا نضحك على أنفسنا إذْ كان للطالب باليوم الواحد سبع ساعاتٍ من حصص دراسيّة لم ترقَ بالمطلوب. ولا أذكر أنّي استفدتُ منها سوى بعباراتِ والديّ بأنْ أكون الأوّل دائما مهما كان الثّمنُ!
لمَ لم نتعلّم بأنّنا لسنا أغبياء؟ أو ليكون سؤالنا صحيحاً؛ لِمَ لم يُعلّمنا أحدٌ ذلك؟ لمَ لم نتعلّم بأنّنا أهلٌ لقيادةِ أجيالٍ قادمة؟ أو أهلٌ لأي شيء؟ لمَ لم نتعلّم بأنّ الحقيبة الدّراسيّة التي أصابتنا بآلامِ الظهر اللعينة.. هي وسيلة وليست غاية؟
لربّما هذا حال الطّبقة الكادحة التي أنا منها؛ مدارسٌ حُكوميّة، مَصروفٌ حُكوميّ لا يكفي لأن تتظاهر بالبَطَر بعض الشيء، أصدقاءٌ حُكوميّون، وحتّى أنّني كنت أرى مدرستي حكوميّة! فلم أؤمن للحظة بأنّي قادمٌ لتلقّي العلم، فكانت الغاية منها كي أرى أصدقائي وأصارعهم ويصرعونني؛ نتدارس أمام معلّمينا، نُضحِكهم، ويبكّونا في الاختبارات كنوع من أنواع السيطرة التي افتقدوها دَيْدَناً ونَهْجَاً، أيّ أنّ العمليّة الدّراسيّة قد بدت نُزهةً لكلينا بعض الشيء!
لكنّ الأشياء الجميلة التي تعلمناها؛ هي أنْ نحترم الجميع فكيف بمَن علّمنا، حتّى وإنْ كان الواحد منّا ذا صوابٍ والمعلّم كان على خطأٍ، وليس ذاك -في مقتبل الأمر- لرقيّنا أو لكرم أخلاقنا! لكنّنا كنّا إذا عَقَقْناهم وأخبرناهم كم هُم مُخطئون، سيكون لنا ما لم نَتَمَنّه أبداً.. إذا وصل الخبر لوالديْنا!
فإذنْ؛ أستاذي العزيز، فَقِطارُكَ الكهربائيّ ذاك.. سيتّجهُ دُخَانُهُ شَرقاً. سامَحني الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق