إزدواجيّةُ رجل شرقيّ

اقرأ أيضا :

افترشنا طريقا لا يملكُ رصيفين، ينأى بنفسه عن أيّ ضوضاءَ في هذا العالم تثقلُه. قال لي: أريدُ أن أسافرَ لأرض الشّقراوات الحِسانِ، ولا أعود منها. أريدُ أنْ أجتثَّ كلَّ جذوري الشرقيّة من هُنا، ومَن أبى منها.. سأقطّعهُ إرَباً إرَباً، أريد أن ينساني هذا العالمُ، أريد أن تنساني خارطةٌ تضمُّ أمّي وأبي، أريدُ أن ينساني تاريخي ومُعتَقَدي، أريد أن أُنسى كأنّي لم أكن يوماً..
سأبحثُ عن امرأةٍ تمنحني الجواز الأوروبيَّ. سأفتّشُ عنها كلَّ ميادين هذا العالم الكئيب حتّى لو كلّفني ذلك عمري، حتّى لو بقي لي يوم واحد، سأفعل المستحيل لأجل اللحظة المنشودة تلك.


وأنت ماذا سَتمنَحُها؟ قال: جيناتي. "ضحكتُ حتى بكت خاصرتاي".
لِمَ تضحك؟ أضحكُ على تلك المغفّلة، التي ستُثمّن جيناتك العربيّة بشيء! صدّقني.. نحنُ لا نساوي شيئاً.

ردَّ عليَّ بحرارة: يا مغفّل.. ليس كما تظنُّ!
 فالأوربيّات يعشقنَ الشرقيّة فينا!

قاطعتُه بقدر لهفتي لسماع إجابته: أَلِأجلها أم لأجل ما تملك؟ قال: بل لأجل ذاتي وكيانيَ المهزوم، لأجل أن أنجو بنفسي ومن معي.


وهل يَصِحُّ في منطق الحرب.. أن يدفع الثّمنَ غيرُ الطرفين المحاربين؟! هل تَصِحُّ معادلة الحرب تلك إذن؟!
يا قيسُ؛ قد هزَمَتْكَ أفكارُكَ تلك، من قبل أن تدخل معركتك اللعينة، هُزمتَ من لا شيء! هزمتَ نفسك عندما وكّلتَ حربَكَ لأناسٍ آخرين.
يا قيس.. لا يُولد المرءُ منتصراً، يجب أن نبنيَ أفكارنا أولاً.. نغزلها ثمّ ننسج منها ما يلائم واقعنا وأحلامنا.. نصنعُ منها ما يقينا حرَّ الحرب، نصنع دِرعاً وسيفاً من سيوف الهند، ثمَّ ستكون لك حربُك الخاصّة، عندها يجدر بك أن تقاتل لها وليس لأجل حوريّة شقراء من إحدى جنّات الأرض.
أتعلمُ شيئاً.. البعضُ منّا -وأنت منهم يا قيس- يودّ أن يولد ملكاً غنيّاً ذا بَذَخٍ وسَطْوَة، لكنّ البعضَّ الآخر يودُّ أن يمتطي صَهْوَة جواده كي يحاربَ لأجل تلك اللحظة.. لحظة وُلادته.. لحظة ولادة أحلامه، اللحظة التي سيضحكُ بها للمرّة الأولى، بعد الشّقاء الذي تمرّغ به في معاركه الخاسرة من قبل!


غريبٌ أنت يا حذيفة.. غريبٌ لدرجة تَصَنُّعكَ كلاماً لأجل أن تَتَسيَّدَ الحديثَ فقط! أَلَا تحبُّ أن تولد ملكاً غنيّاً ذا بَذَخٍ وسطوةٍ؟! ألا تحبُّ أن تكون لك القدرة وأن تكون مطاعاً في أهلك؟! إنّك تختلقُ كلاماً.. وهذا بالأصل يعارض ما جاء به اللهُ منذ الأزل..

لا يا قيس.. بل أنا أشدّ المغرمين بتلك الأمور والدّاعين لها، لكنّني أختلف عنك بشيءٍ واحد.. هو أنّني أريد أن تذكرني حروبي رغماً عنها! لا أن أشتري حرباً تَذْكرني للحظة وتنساني بقيّة العمر. أن تقاتل لأجل شيء ما.. هو أجمل بكثير وألذّ من أن تُصْبِحَ وتجد هذا الشيء أمام عينيك بلا أيّ نَدْب لأجله يُذكر!

هل تذكر خالداً بن الوليد؟! كان أبوه من سادات قريش وأَحَدُ قاداتها، كان الوليد بن المغيرة ذا مال وذا نسب وجاهٍ وسطوة.. ينزل منزل الأبرار الأطهار بين أهله، وكذلك كان أبناؤه.. فكان لخالد مِلكٌ لا يُذكر.. لكن.. عندما جاء محمّدٌ برسالته تلك، جاء خالدٌ وخلع كلَّ جذر من جذوره لأجل محمّد ورسالته.. قاتلَ كثيراً.. حتّى لم يتبقّى شبرٌ في جسده إلّا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف. الغريبُ في الأمر.. أنّ خالداً عند موته وقد قاتل في كلّ معارك الله وانتصر فيها، وأذاق في اليرموك ما أذاق.. إلّا أنّه قال قولته المشهورة: لقد شهدتُ مئة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضع شبر إلّا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح. ثمَّ أكملَ: وها أنا ذا أموت على فراشي.. حَتْفَ أنفي، كما يموت البعير.. فلا نامت أعين الجبناء؟
لأنّه لم يمُت شهيداً بأحد الضربات لأجل رسالته وحربه التي وهبها نفسه، رغم أنّه قد فاز بكلّ شيء لدرجة أن صار سيفاً من سيوف الله! رغم كلّ ذلك وأكثر.. إلّا أنّه في مِيتته.. لم يرد أن يموت "هكذا" كما قال.. ميتة البعير، بل ميتة مشرّفة في ساح الحرب!

مناطقُنا تختلف يا قيس، وكلٌّ له طريقته في تعريف حربه.. لكن أريد منك ألّا ترجعَ وتذكر أنّك ستحارب لأجل أن تجد فتاتك الشّقراء، لا تذكر كلمة حرب.. فمنطقُكَ ليس منطق حرب ولا حتّى هزيمة؛ فالهزيمة أيضاً تكون في ساحة الحرب!



حسناً.. إذن، حسب رأيكَ قد هُزمتُ مبكّراً.. وأنّني لا أستحقُّ أن أبحث عن فتاتي.. أليس كذلك؟

لم أقُل.. أنّكَ لا تستحقُّ.. بل قلتُ بحثُكَ عنها ليس بحرب ولا يكون انتصاراً، بل تكون هكذا قد وكّلتَ حربك أحداً غيرك.. ليمنحك الحياة!

.
.
.

قيس فجأةً: حذيفة.. 

حذيفة: مَ؟

قيس: أخبرتَني بالأمس أنّك اتّصلتَ مع أحد أقربائكَ في السُّوَيد.. ماذا دارَ بينكما؟

حذيفة: لا شيء.. أخبرتُه أن يبحث لي عن فتاة من هناك كي نكوّن عائلة ذات طابع شرقيّ مُقيَّد.

قيس: دعنا نكون عَدِيليْن إذن!

حذيفة: لا عليك.. سيكون ذلك، وسنسافرُ بنفس مقعد الطائرةِ.. إن شاء الله.

قيس: سنكون جميعاً أنا وأبنائي وأبناؤك أيضاً، مدينين لك بذلك طيلة حياتنا، وستظلّ مديناً لنفسكَ.. بانتصاركَ بهذه الحرب.. طيلةَ حياتِك!

حذيفة: نعم، ربّما!

الأقسام :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق