نسبيّة لا تعترف بالزَّمن

اقرأ أيضا :



‏لو أن أحداً منّا من ذوي العشرين.. نام مدّةً من الزّمن تُقدَّر بعشرين عاما، ثمّ أيقظه خَطْبٌ ما.. فهل سيكون عمرُه مُذْ أن استيقظ بضعا وأربعين عاما، أم أنّه سيظلّ من ذوي العشرين في عمره؟!


لم أكن أحسب بتاتا.. أنّ أعمارنا هي ما مشتْ عليها الشّمس! أنّ أعمارنا مَحْض شريط زمنيّ؛ يُسيَّر فيسير ولا له ولا عليه، ولم أكن أدرك حقّا أنّ خِلاف ذلك هو الحقيقة بعينها.

متى تمرّ الشّمسُ علينا يوما.. يعني ذلك أنّنا سنكبر يوما، فتلك معادلة الشّمس التي بها هرمنا وما زلنا نهرم إلى أنْ نموت. لكنْ؛ هل حقّا أنّ المعادلة تلك هي المعادلة الصحيحة؟ وهل هناك في مَخادِع هذا الكون العظيم ما يومئ لنا بمعادلة تكون نقيض ما علّمتنا إيّاه الشّمس؟

تُحرَّق الأوطان، وتشتعل المساجد، وتُنتهك الكنائس، وتتكسّر الأقلام، وتزداد الظّلال طولا، وتنطمس الحقائق بين نافٍ ومكذِّب، ونحن.. ونحن نزداد قتلا.. هَمَجِيَّة.. خوفا.. خذلانا.. وأملاً على أنْ نصحو على غدٍ لا يحمل في طيّاته ما يقتُلنا.. ما يفنينا.. ما ينافي أفكارنا.. ما يجعل منّا قادة للأمم.. بل ما يجعل منّا خَدَمة للأمم؛ إنهاضا لها من ظلماتها، كما كنّا في سابق عهدنا الأوّل.



القدس وبغداد ودمشق وصنعاء وطرابلُس وتونس الخضراء والجزائر وكلُّ عاصمة اغتصبت من قبل أو ما زالت تحت صراخ الاغتصاب، هي من فعل كلتا يديك أنت! أَوَ تحسب جغرافيّة الأوطان تبعدك عمّا فيها؟! أوَ تحسب أنّها القدس لا تعنيك أبداً؟! وصنعاء اليمن.. بقَفير نحلها وعسلها أليس لك حقّ بهم؟ وأنّ دمشق الخير بعذوبة ما تحويه من شجر أَجَاص وكُروم عِنَب وكلّ تلك العصائر ليس لك حقّ بهم؟! وبغدادٌ بتمورها.. ونفطِها البازلتيّ.. أنْ ليس لك حقّ بهم؟ أَوَ تحسب أنّ شَدْو العصافير المُهجَّرَة من أرض عراقنا ويَمَنِنا وقُدْسِنا ومن ربيعنا العربيّ -كما ظننّاه- لن تحاسبك يوما فيما هُجّرَتْ؟! أَوَ تحسب أنّ جِدارا شائكا لوّنوه وصَوّروه وصيّروه كيفما شاؤوا.. فصار وطنا مضلَّعا أو غير مضلَّع -قتلوا فيه آباءنا وكسروا هديلَ الحَمَام فيه، وصيّرونا أعداءا نقتل بعضنا بعضا- سيمنعنا عن مواطن عروبتنا؟! أَلا تحسب أنّ اسمك ذاك الذي ينادوك به هو محض وَهْم لا أكثر؟! وأنّه نتاج سايكس بيكو التي مزّقتنا وأنتجت منّا من كان شيطانا بشريّا؟


تخيّل أنْ لا وجود لسايكس بيكو اللعينة.. تخيّل فقط!
تخيّل كيف تكون أنت حرّا بين الأفكار العربيّة، تجمعها وتخيطها كيفما شئت، تمرّ على كلّ فكرة أنثويّة كانت أم ذكريّة، تصنع منها تذكرةً تسافر وترتحل بين عوالم ومواطن ومدائن وأنت ما بين فكرة وأخرى!

الأعمار إذن؛ هي محض رمز نتداوله بيننا لا أكثر! والشّمس يا مولاي إنْ مرّت عليك عاما، فهذا لا يعني أنّك قد صرت رجلا أو امرأة أكبر بعام عمّا كان من قبل أن تمرّ الشّمس عليك. العمر يا مولاي؛ هو ما أقمتَ فِكرا أعوجا كاد أنْ ينهي نفسه ويهلك الآخرين به، العمر يا صاح هو ما كتبتَ.. أو كم كتابا قرأت.. كم معركة فِكريّة خضتَ بين ذاتك أو بين ذاتك والآخرين.. العمر يا مولاي هو أنْ تصل للشّمس تلك -التي تمرّ عليك يوميّا، من قبل أن تمرّ على يومك الأخير- بالعلم، بالمعرفة المُكتَسبَة، بالتقدّم العلميّ والمعرفيّ..

العمر يا مولاي، لا يكون بعِداد الأنفاس التي تقطعها وتذكيها باليوم والليلة، فالعمر إنْ لم أُخْطِئه؛ هو عبورك الأكوان والأزمان في ذات اللحظة دون أنْ تُحرِّك ساكنا متلثّما بينك وبين عقلك، لا يفصل بينكما فاصل، تستدرجه وتأمره فيطيع.. لا يعصي لك أمرا أبدا.

لو أنّنا نقرأ أكثر من كرهنا للآخرين، لو أنّنا نحلم بالقوّة بقدر ضعفنا! لو أنّنا نكبُر بقدر تقزيمنا لأنفسنا! ولو أنّنا لا نُخِدّ الأخاديد لنحرِّق به أبناء عقيدتنا، وأبناء أترابنا على اختلاف اتجاههاتنا ومذاهبنا، ولو أنّنا نحبّ ذواتنا ولا نصيّرها ونصغّرها، ولو أنّ بكل نفس فينا.. خالدا أو صلاحا أو عُمُرا أو أبا البُختُريّ -الذي مات لمبدأ وقد كانت له الفرصة ليعيش- ولو أن فينا أبا دُجانة، ولو أنّنا نعشق تاريخنا المشرِّف بقدر عشقنا لهذه أو تلك! ولو أنّنا نرتاد عقولنا ولا نهجرها...



نعم؛ فالمعادلة باتت واضحة، فأبو العشرين عاما لن يكبر بتاتا، بغير أن تمرّ الشّمس على العقل قبل الجسد. فإلى أن يفتح العقل بابه، وإلى أن تُنضِج الشّمس عقولنا، لنا أنْ نحلم بغد يكون أجمل.. أنقى.. أنصع بياضا وأكثر إشراقا..

فحتى ذلك الوقت، ستمضي القدس ليلها بين أخمَصٍ وكأس تفّاح فاخر مُثلَّج، وستظلّ دمشق تستر عورتها بأجساد الملائكة الصّغار، وسيظلّ قفير النّحل يردّ صدىً جاءه عابثا من أحد السّائلين عن الحياة! وستظلّ طرابلُس الشّقراء تعطي عسلها الأسود للعابثين به غصْبا وقهرا، و سيظلّ ذو العشرين عاما.. فتىً يافعا حتّى وإن عتى عليه الزّمن وأبحر ولوّن حاجبيه بألوان السّكر.
سيظلّ ذو العشرين عاما يمشي على ثلاث، ويرى بأربع، ويلهث من وقْع أنفاسه الثّقيلة، سيظلّ طفلا والشّمس قد مشت عليه آلاف السّاعات؛ وهنا قد تصير معادلة الشّمس حقّاً باطلة.


وإلى أنْ يصحو ذاك الشّاب الذي نام عشرين عاماً.. سنتكلّم معه كي نراه متى أفاق من سَكْرَته تلك، وعندها فقط.. مِن المُرجَّح أن نعرف ما إجابة سؤالنا الذي سألناه آنِفا.

الأقسام :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق