أتذكّر جيّدًا كيف أصبحتُ في ذلك اليوم -السّابع من أكتوبر المجيد- لحظات فقط.. وأدركتُ أنّ الأثمان التي ستُدفع ستكون بهيظة والمآل سيكون عسيرًا للغاية، ثمّ أنطقتُ فمي: اللهمّ سَلِّمْ.. اللهمّ سَلِّمْ.
علمتُ حينها أنّه ليس موعد النّصر الذي سيكون في آخر الزّمان وإنّما هو صولة جديدة كي لا ينسى السّلاح مكانه ولا ينسى الشّريف ترابه؛ فبلادنا منكوبة مهلوكة، لا تشرق عليها شمس ولا يتبعها قمر، من يقتفيها لا يعلم من أيّ صوب تهلّ عليه أخبارها العَفِنة، وكيف تشيخ في ظلالها الأيّام؛ أهلها نيام وعلماؤها في ظلام تامّ، وشيوخها آلهتهم كُثُر، وساساتها ليسوا صنّاع حربٍ أو طَعْن، وليس لهم في خرائط الأرض بُقعة واحدة. أدركت أنّها ستكون حربا دمويّةً سيقتفي آثارها الكلّ؛ في منظرها، في هلاك أهلها، وفي ذُلّ مَن كانوا يومًا دعاتها. وما الثّمن؟ الثّمن بات واضحًا كما هذا الحرف؛ إنّنا -نحن العرب- لسنا أهلًا للحرب.
نحن نحبّ الحياة مترفةً بالعِصيان، نحبّها مليئةً بالهَذَيان والسُّكْر، نحبّها ممزوجةً ببعض من المُجْن، لا نحبّ أن نواجه أنفسنا في ملذّاتها، أو أن يكون لنا قوانين تقودنا. نحن لا نحبّ أن نواجه الحقائق، ولذلك نُهزَم في أشيائنا، نُهزم دائمًا عند أوّل مُنعطَف حقيقيّ يمتحننا ويضع المرايا أمامنا صوب أعيننا. ولن تجد -هاهنا اليوم- رجلًا واحدًا يكون بأمّة، ذا مبدأ وراية، معلّمًا أمينًا وقائدًا متينًا، بل هؤلاء -السّاسة- في مصائرهم التي وُجدوا عليها.. لم يصلوا بعد لحقيقتهم، هم خيالات في سراب سرمديّ.. نقتفيه من ورائهم وندلّ عليه! ولو أنّ عروشهم من ذهب لكنّا قد اعتبرنا وعذرنا، لكنّهم لا ثمن لهم حينما الوالي الأصفر يصدر الأمر.. والتّاريخ يشهد.
هذا السّابع من أكتوبر اللعين أتعبنا وأهلكنا وأظهر علينا أنفسنا، صرنا من خلفه نبحث كما الكلاب اللاهثة عن مصائرنا هنا أو هناك بين الأزمان والأمكنة في خبايا الأرض؛ مَن نحن؟ ما لوننا؟ ما كياننا؟ وما ديننا أو دَيْدَننا؟ صرنا نبحث عن معانٍ جميلة ربّما كانت لنا في أيّامنا.. علّنا نرمّم ما تآكل به بنا. وإنّما اللعنات هذه.. إنّما هي على أنفسنا.. كيف صرنا وكيف غابت عن مرايا هذا العالم الواسع الفسيح صورنا؟!
أتعَبَنا ذاك اليوم؛ زلزلنا وهدم علينا حرفنا ونصّنا وكسر قافيتنا، لم يعد بإمكان المرء أن يواجه صورته وهو وحده.. وهو يكتب ويقرأ ويعيش، إنّنا الآن جالسون حيثُ يجلس من يريد النّهاية؛ على حافة الجُرف بل الهاوية. وإنّما مصائرنا بعد هذا اليوم ستكون سرابًا، سنعيش ما تبقّى لنا من أيّامنا ونحن مدركين تمامًا كيف هو لون الهوان وما هو طعم الخيانة، وبعد مائة وستّين يومًا.. بات جليّا لنا جميعًا ذلك.
نحن أقوام لا تعي من مفاهيم النّصر إلّا صلاة الغائب، فكم صلّت الأعراب على "السّابع من أكتوبر" صلاة غائبٍ دون أن تطُلِق له راصاصة واحدة في الهواء، ربّما هم نفسهم في أنفسهم خَجَل أن يخبّروا العالم -هذا الذي يكذبون فيه- أن هذه الصّلوات إنّما هي على أنفسهم وليس على من مات في ذلك اليوم.
الأجيال المختارة القادمة سيكون لها كلمتها لا شكّ، سترمي وراءها كلّ ما لا يُقتَنى؛ أجدادها ومبادئهم وبعضًا من عوالمهم ثمّ ستصنع الكلمة لأنها ستكون قد آمنت بها، ستمزج في دمها آلاف الأحرف والكلمات التي فيها من العزّ والكبرياء.. حينها... ستدور الأرض بين أصابعهم.
أمّا أنا.. وما قرأتُ من تاريخ وأدب وشِعر.. وما كتبتُ منهما.. سنذهب أدراج الرّياح، فكيف سنؤمن بهذا الحرف المهترئ... بعد أن استولى عليه نصّابٌ ومدّاح؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق